ولمساعدتنا في تفهّم كيف ينظر البهائيون إلى العلاقة بين دينهم ونظامه الإداري من جهة وهدف تحقيق السلام العالمي وتأسيس النظام العالمي من جهة أخرى يجدر بنا أن نعيد إلى الأذهان بأنَّهم يربطون الحضارة العالمية المستقبلية بالعصر الألفي السعيد أو تأسيس "ملكوت الله" المذكور في الكتب المقدسة للأديان الأخرى. فالبهائيون يعتقدون بأنَّ تأسيس السلام والاتحاد العالمي يعني تأسيس ملكوت الله على الأرض وهو ما يرمز إلى النصر النهائي للخير على الشر كما تنبأت به جميع الأديان السابقة وأشارت إليه بشكل رمزي. ويعتقدون أيضًا أنَّ تأسيس هذا النظام العالمي إنَّما هو تجسيد لإرادة الله وعنايته عبر تاريخ الجنس البشري. جاء في بعض التقاليد والأعراف الدينية بأنَّ تأسيس ملكوت الله يرتبط فقط بالإرادة الإلهية وأنَّ دور الإنسان في هذه العملية سلبي في الأصل، وأنَّ ظهور الملكوت وتأسيسه سيكون بصورة مفاجئة وبشكل سحري وغير طبيعي(1).

إنَّ البهائيين يؤمنون بأنَّ الله قوي وقدير وهو بالتأكيد يستطيع تحقيق ملكوته على بسيط الغبراء فورًا إن شاءت إرادته، إلاّ أنَّ حضرة بهاء الله شرح لنا بأنَّ الله يريد أن يعلّمنا دروسًا محددة كيف يمكن تأسيس ملكوته. ويعتبر البهائيون المجتمعات في عالمنا المعاصر غير قادرة على تلبية احتياجاتنا الفعلية لأنَّ هذه المجتمعات تعمل وتطبق شرائع مغايرة لشرع الله. وفي الوقت الذي يؤسس فيه الله ملكوته على الأرض فإنَّه يعطي لنا مجال التعلم من خلال الخبرة والممارسة، وهذه الخبرة تأتي من واقع حياتنـا وما تتمخض عنه نتائج أعمالنا وتجاربنا. كما أشار حضرة بهاء الله بأنَّه فقط من خلال تفكيرنا العميق وإدراكنا لأخطائنا الماضية وقبولنا بها فإننا نحمي أنفسنا من تكرارها المأساوي الذي جرّ العالم إلى ما هو عليه من أخطار الحروب المستمرة وما تحمله لنا من معاناة واستغلال ويأس([47]).

وضع حضرة بهاء الله تصورًّا لتأسيس النظام العالمي على ثلاث مراحل متعاقبة. المرحلة الأولى هي مرحلة الانحلال الاجتماعي واتساع مدى المعاناة التي ستفوق مثيلاتها في السابق اتساعًا وشمولية. ويعتقد البهائيون بأنَّ هذه المرحلة قد بدأت وتفاقمت وأنَّ الأزمات التي تحيط بالعالم ستصيب حياة كل إنسان وكل مؤسسة اجتماعية. وقد ذكر حضرة شوقي أفندي في توقيعه "قد أتى اليوم الموعود"The Promised Day Is Come بأنَّ معاناة البشرية هذه تعتبر "محنة جزائية" و" قصاصًا إلهيًّا عادلاً من جانب الحق تبارك وتعالى في آن واحد حيث قال حضرته:

من جهة، فإنَّ هذه المحن والمآسي عقاب إﻟﻬﻲ وعملية تطهير لعموم الجنس البشري، فنارها تعاقب العالم على عناده وفساده وضلاله وتعمل على تلاحم أعضائه في جامعة عالمية واحدة غير مجزأة. فالإنسانية، في هذه السنين من مصيرها الحاسم… مدعوة في الوقت نفسه أن تستعرض ما ارتكبته في الماضي وأن تطّهر نفسها وتستعد لمهمّتها المستقبلية. فلا يجوز لها أنْ تتهرب من مسئولياتها الماضية أو أن تتجاهل وظائفها المستقبلية(1)". وطبقًا للعقيدة البهائية فإنَّ الفترة الحالية من المعاناة والصعاب ستبلغ ذروتها في شكل اضطرابات روحية وجسدية واجتماعية وعلى مستوى العالم. هذه الأزمات تشير إلى نهاية المرحلة الأولى والانتقال إلى المرحلة الثانية من الخطة الإﻟﻬﻴﺔ. أشار حضرة بهاء الله إلى تلك الأزمات بما يلي:

إنَّا قد جعلنا ميقاتًا لكم فإذا تمَّت الميقات وما أقبلتم إلى الله ليأخذنكم عن كل الجهات ويرسل عليكم نفحات العذاب عن كل الأشطار وكان عذاب ربك لشديد([48])". المرحلة الثانية من تقدم البشرية نحو النظام العالمي يمكن ملاحظتها من خلال تحقق "السلام الأصغر" أو "الصلح الأصغر". وعلى ضوء البيانات الواردة في الكتابات البهائية يمكن القول بأنَّ المرحلة الثانية هذه يمكن اعتبارها توقفًا مستمرًا للحروب أكثر منه من سلام دائم شامل وعالمي. فالسلام الأصغر هو اصطلاح لوصف السلام أو التقارب السياسي الذي ستصل إليه شعوب العالم من خلال الاتفاقيات الدولية. أمَّا المظهر الرئيسي للسلام الأصغر هو وضع إجراءات دولية للأمن الوقائي لوضع حد للحروب بين الدول والشعوب. وسنتطرق إلى تفاصيل هذه الإجراءات اتفاقية رسمية تدعمها كافة شعوب الأرض مبنية على مبدأ "الأمن الجماعي" والتي تنص على أن تهب كافة الأمم جماعيًا لردع أي معتدي. وفي هذا السياق يقول حضرة بهاء الله: "إن قام أحدٌ منكم على الآخر قوموا عليه إن هذا إلاَّ عدل مبين(2)".

كما شرح حضرة عبد البهاء هذا الموضوع في البيان التالي:
عليهم - قادة العالم- توقيع معاهدة ملزمة للجميع ووضع ميثاق بنوده محددة، سليمة، وحصينة. وعليهم أن يعلنوا ذلك على العالم أجمع وأن يحرزوا موافقة الجنس البشري بأسره عليه… كما ينبغي تسخير كل قوى البشرية لضمان هذا الميثاق الأعظم ولاستقراره ودوامه. ويعّين هذا الاتفاق الشامل بتمام الوضوح حدود كل دولة من الدول وتخومها، وينص نهائيًا على المبادئ التي تقوم عليها علاقات الحكومات بعضها ببعض ويوثق أيضًا المعاهدات والواجبات الدولية كلها… والمبدأ الأساسي لهذا الاتفاق الرصين يجب أن يكون محددًا بحيث إذا أقدمت أي حكومة فيما بعد على انتهاك أي بند من بنوده هبت في وجهها كل حكومات الأرض وفرضت عليها الخضوع التام، لا بل إنَّ الجنس البشري كله يجب أن يعقد العزم بكل ما أوتي من قوة على دحر تلك الحكومة. فإذا ما اعتمد هذا الدواء الأعظم لعلاج جسم العالم المريض، فلا بد أن يبرأ من أسقامه ويبقى إلى الأبد سليمًا، مطمئنًا، معافىً(1)".

يؤمن البهائيون بأنَّ السلام الأصغر سيتحقق قريبًا بعد نهاية الفترة الحالية من الأزمات والمصاعب والتغييرات الاجتماعية، وإنَّه لاشك في أنَّ هذه المآسي ستكون ذلك المؤثر الرئيسي في الضغط على الأمم والشعوب لوضع حد للحروب مهما كلف الثمن. وقد تنبأ حضرة عبد البهاء بأنَّ السلام الأصغر سيبدأ في الظهور في هذا القرن(2). وما السلام أو الصلح الأصغر ألاَّ مقدمة ضرورية للمرحلة الثالثة من ظهور النظام العالمي وهي مرحلة ستتحقق بالتدريج ودعاها بهاء الله بمرحلة "السلام الأعظم". إنَّ بزوغ هذه المرحلة كما قال حضرته سيتزامن مع ظهور النظام العالمي. أمَّا وصف حضرة شوقي أفندي لهذا النظام المستقبلي فقد ذكر سابقًا في هذا الفصل. وفي موضع آخر تحدث حضرة ولي أمر الله عن هذا النظام بأنَّه "الاندمـاج النهائي لجميع الأجناس والعقائد والطبقات والشعوب". ولكن السلام الأصغر سيتحقق بواسطة "شعوب الأرض الغافلة عن ظهور حضرة بهاء الله والتي تنفـذ مبادئه بصورة لا إرادية". أمَّا السـلام الأعظم فسيتحقـق بعد "الاعتراف بمميزات وأحقية دعوة بهاء الله([49])". وكما يعتقد البهائيون فإنَّه خلال تطور البشرية من مرحلة السلام الأصغر إلى مرحلة السلام الأعظم ستقر الشعوب تمامًا بدعوة حضرة بهاء الله وستقبل بمبادئه وتطبقها غالبية أفراد الجنس البشري.

يمكن اعتبار النظام الإداري البهائي نظام جنيني للنظام العالمي المستقبلي. وطبقًا لما ذكره حضرة شوقي أفندي فإنَّ مؤسسات وقوانين النظام الإداري البهائي مقدّر لها أن تصبح "نموذج للمجتمع المستقبلي، وهذا النموذج يعتبر أداة جيدة لتأسيس السلام الأعظم ووسيلة لوحدة العالم وإعلان العدل والمساواة والخير والرفاهية لعموم البشر(2)". إنَّ رؤية السلام الأعظم يتوافـق مع رؤيا حبقوق فـي التوراة والتي تشير إلى الزمن الذي "سيعّم الأرض العلم الإﻟﻬﻲ وعظمته مثلما يملأ الماء البحر "(سفر حبقوق - أصحاح 2 - آية 14) إنَّه دلالة على "شفاء الشعوب" الموعود في رؤيا يوحنا اللاهوتي بالإنجيل (سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي - أصحاح 22 - آية 2). هذا السلام لن يأتي بحضارة عالمية فحسب بل بروحانية تشمل الشعوب والقبائل جمعاء. إنَّه يمثل "قدوم العصر الموعود لكافة أركان الجنس البشري(3)".
كما تحدث حضرة شوقي أفندي عن السلام الأعظم بقوله الكريم:

"عندها ستولد الحضارة العالمية وتزدهر وتخلد نفسها، وستكون حافلة وخصبة بالحياة بحيث لم ير العالم شبهها ولم يتخيلها أحدٌ من قبل. عندئذ سيتحقق العهد الأبدي بشكل كامل وتتحقق الوعود المذكورة في جميع الكتب المقدسة السماوية وتتحقق جميع النبوءات التي وردت على لسان النبيين والمرسلين ويتجلى ما تغنى به ذوو البصيرة والشعراء في رؤاهم. وعندها ستنعم الأرض بدين عالمي بإﻟﻪ واحد أحد، ويكون ولاؤهم وإخلاصهم لدين واحد. وعندها ستعكس الأرض، على الرغم من بعض العثرات، ذلك الجلال والعظمة المتلألئة من سلطنة حضرة بهاء الله الملكوتية… وتصبح الأرض جنة من الملكوت الأبهى وقادرة على تحقيق ذلك المصير العظيم الذي قدّره الخالق لها منذ الأزل بفضل محبّته وحكمته([50])".

يعتقد البهائيون بأنَّ الإرادة الإﻟﻬﻴﺔ تعمل في اتجاهين أو على مستويين. فمن جهة هناك الإرادة الإﻟﻬﻴﺔ المطلقة الموجودة في كل مكان والتي تدخل في قلب كل حدث في تاريخ البشرية وتبدو في الظاهر غير ذي بال. إلا أنَّ كل شيء على المدى البعيد يخدم الهدف الإﻟﻬﻲ في توحيد الجنس البشري. ولهذا السبب يدعم البهائيون الكثير من القضايا العالمية والإنسانية ويحاولون أن يستثمروا الجوانب الإيجابية من القضايا الأخرى حتى لو لم يوافقوا على بعض جوانبها.
ومن جهة أخرى، يؤمن البهائيون بأنَّ دينهم و نظامه الإداري يمثلان حلقة وصل بين المشيئة الإﻟﻬﻴﺔ والعالم الإنساني في هذا العصر، وبه تسري روح الوحدة ونهجها وتتغلغل في شئون البشر. ولهذا يرى البهائيون بأنَّ وظيفتهم الرئيسية هي أن يكونوا بمستوى كمال تلك الأداة الممنوحة من الحق تبارك وتعالى للبشرية. وعندما يبدأ نفوذ هذا الظهور الجديد في التغلغل في جسم البشرية ككل سيأخذ السلام الأصغر بالتحول تدريجيًا إلى السلام الأعظم وسيدرك الناس إرادة الله سبحانه وتعالى للجنس البشري ويشهدون تأسيس ملكوت الله على الأرض.
منقول عن كتاب الدين البهائى بحث ودراسة